Sunday 19 August 2012

عدنان المبارك وأصداره الجديد "سر الرمل" مجموعة قصصية



عن موقع ( القصة العراقية ) الإلكتروني صدرت مجموعة قصصية جديدة للكاتب العراقي عدنان المبارك ، بعنوان ( سرّ الرمل ). وتضم إحدى عشر قصة من العامين الماضي والحالي. وتستهل المجموعة ثلاث قصص تحت عنوان ( ثلاثية راسموسن ) وتتفرع منه عناوين أخرى يخص كل واحد منها أحدى هذه القصص. وكما ألفه قارئ المبارك ثمة مزج سردي للوقائع الفعلية والأخرى من منطقة الأحلام وتفاعلات المخيلة وما يجيء به الاثنان - الوعي واللاوعي. مثلا تتناول هذه الثلاثية بعض التجارب التي مر بها المؤلف أبان نزوله في نهاية العام الأخير والأشهر الأولى من هذا العام ، في مستشفيين. وفي الثلاثية يخلق المبارك شخصية أستل ملامحها وعدد من أبعادها من ( أنا ) المفكر الدنماركي سورين كييركيغور وتاريخه الشخصي. ويكتشف القارئ مرة أخرى أن كل شيء هنا - من وقائع وفنتازيا وأحلام - قد صهر في بوتقة السرد. وتتكرر المعالجات نفسها في القصة الرابعة ( الرقص على السرير ) وهي عن لقاء متخيّل مع أميل سيوران. وفي قصة بعنوان ( في غرفة الطابق الأول تلك ) يحشر الكاتب الشيطان ، في غرفة واحدة ، مع عدد من مختلف أصناف البشر المجهولين عدا واحد كأنه الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس . والقصد هنا خلق مواجهة فعلية بين الشر والخير وفق التجارب التي جاء بها التأريخ بالدرجة الأولى. وفي قصة ( عن الوصية الأخيرة ) تسعى شخصيتها الرئيسية الى أن تكتب وصيتها التي تصبح هنا مجرد اعترافات لما فعله بطلها في حياته.
تخلق قصص المبارك ، عامة ، انطباعا بأنها في ذات الوقت تبتعد وتلتصق بالواقع ، وفق التسمية التقليدية ، وأن كاتبها يتصرف بالزمكان بمطلق حريته خالقا تصوراته الخاصة عن كل شيء بدءا بالذات والتاريخ والإنسان والرب ، وعالمه الخارجي بل الكون أيضا. ويصعب القول أنه انطباع لا يخلو من الوهم، بل كل ما في الأمر أن المبارك يتوجه الى ( قارئ آخر يتفهم " اللامألوف " ) على حد تعبيره. ويعترف بأن ما يجذبه هو السرد الذي يتناول شتى المظاهر والافتراضات المتعلقة بمستويات الواقع وبضمنها مستويات واقعنا بفينومينولوجيته المألوفة. ويجد أن نشوء رباط متين ودائم مع القارئ الحالي ، وليس الآخر من المستقبل ، هو أمر بالغ الصعوبة ، فالقارئ محض تجريد يلفه اللايقين. بالطبع هناك قارئ له تجارب وتصورات ومنطلقات تتقارب مع التي عند الكاتب ، و قارئ آخر ، تقليدي ، غير مكترث لتجارب مختلف الكتّاب ، فلديه نماذجه الحياتية والذهنية التي يسترشد بها عند تعامله مع النفس والعالم الخارجي ، ولدى هذا القارئ تمسك صارم بالمنطق العام وقوانين ذلك المستوى الشائع للواقع. وفي معرض الدفاع عن توجهاته في الكتابة السردية خاصة يذكر المبارك أن أكبر ضربة ُتوّجه الى الفن حين يتم إخضاعه لمفاهيم يكمن خطرها ، في تبسيطها لظواهر بالغة التعقيد مثل الوجود وعوالم الإنسان الداخلية والخارجية والموت وأسرار الحياة وآليات المجتمع وغيرها ، كما يكمن في تبسيط العلاقة بين الإنسان والواقع خاصة أن الأشياء ، وكما يقول ألان روب غرييه ، ليست في نظام نهائي على الإطلاق. ومن جهة أخرى يكمن هذا الخطر في النزعة الماكيافيللية عند التعامل مع الفن كوسيلة يبررها هذا الغرض وذاك. وتأتي قصص المجموعة الجديدة ( سرّ الرمل ) ، وهي مجموعته الحادية عشرة ، مواصلة ، لكن غير روتينية ، لهذا النهج الذي يأخذ به المبارك في الكتابة السردية خاصة. ونقرأ في مقدمة المجموعة والتي كتبها أسماعيل غزالي: أن كل ما يحدث في الكتاب يقع داخل منطقة هلامية ، عبر المنامات أو الغرف الآهلة بالأشباح و الرؤى ( المستشفى مثلا ) و في عربات القطارات المارقة أو الصحراء و الأرض اليباب. فالمنامات الشبيهة بأبديات صغيرة هي تجسيد رمزي لظلال الموت الوارفة وغرف الانتظار الشبيهة ببرازخ متأهبة هي نفسها تجربة العيش داخل الجسد و القطارات المارقة الشبيهة بإيقاع هنيهة الحياة هي استعارة حادة لانعطافات الذات في واقعها الموهوم و الصحراء والأرض اليباب نقطة انطلاق أزلية من الصفر نحو الصفر . وعبر هذه الانشطارات و الانسلاخات يضعنا عدنان المبارك في صلب دوامة انسانية طاحنة وماحقة ، يجيد فيها ببراعة ، نزع الأقنعة ومجابهة الكارثة بكل بسالة وجرأة نادرتين.ولا يروم عدنان المبارك بطولة استعراضية من وراء ذلك ، بل يجسد المواجهة النبيلة والتناغم العجيب لفكرته الصادمة في محك النهايات الصارخة والعاتية. وهنا يستضيف هذا السومري الفذ ، أقرانه في مهب الزرقة اللامكانية المستشرية : سورين كيركارد و نيتشه و ماتسوو باشو وماركوس أوريليوس وصامويل بيكيت الخ (... ). إن كتاب سر الرمل ، سرد يلغي فن القصة ظاهريا ، و يخاصرها باطنيا ، إذ يتحول كل شيء إلى أداة لعينة لحفر الذاكرة المحتشدة بالخراب و القبض على مسوخ الحيوات المتشظية للذات. هو كتاب يفخخ السؤال ، ولايرتضي غير العري الفصيح لغة والموسيقى أبدية. فكما ألمعت في ورقة سالفة حول سرد عدنان المبارك ، ثمة فونوغراف يقبع في جهة خفية وراء كلماته يدلق موسيقى باخ ، غير أنها دامغة هنا وأشد توترا في ( سر الرمل ) ، خاصة حينما يصل القارئ إلى هذا الضلع المتوقد كنصل مدية في مختتم الكتاب : ( حان الأوان كي ينتهي هذا الحلم ، أكيد أنه حلم ، وستوقظني الساعة المنبهة في الأخير. لكن بحق السماء كيف عرفت ، وأنا في أثناء الحلم ، بأني أحلم ! ) .

No comments:

Post a Comment